الأستاذ/ عبد الرازق ،
قصة قصيرة تظهر مدي تهميش الأمة لابنائها وأن بلغوا ارفع
المناصب وأرذل العمر،
فهو رجل يعمل موظف بالدرجة الأولي ووصل الي درجة
مدير عام ، وكان من فضائلة يحب الناس ويحب السلامة
وينشد نشر المحبة بين كل اقرأنة واهلة واحبتة ، لايميل للعنف
ابداً ، يحتفظ بشخصية مستقلة وقد طغت صفة الوظيفة مع الايام
علي نفسة بعضاً من الصفات الامرة ، ولكن كان دائما يحاول
تأديب نفسة وتهذيبها للابتعاد عن تلك الصفة التي كان دائما
يمقتها ، وقد اشتهرت عنة الحلال لمشاكل كل المواطنين،
وكان يسعد كثيراً بدعاء الضعفاء والمساكين لة حين ينصرهم
ويحل مشاكلهم مع البيروقراطية المعقدة بالبلاد ،
عندة من الذرية أربعة بنات وولد وحيد وهو اخر العنقود ،
البنات أكبرهم ٣٢ سنة أصغرهم ٢٦ ، اما حسن اخر العنقود
بمجرد حصولة علي البكالوريوس ، أقنع ابية انة لامكان له
في مصر ولا لأمثاله من أبناء جيله في هذه البلاد ابدأ ،وحمل
حقيبته علي كتفة وسافر بهجرة غير شرعية الي أوروبا حلم
كل الشباب في مستقبل باهر ، وهرباً من المستقبل المظلم الذي
ينتظرهم في بلادهم ، المصابة دائماً بقيادات متهاوية لقلة
الخبرة
أو نقصان الحنكة السياسية ،
ولكن الأستاذ عبد الرازق لم يشعر كثيرأ بحجم المشكلة لما يقع علي
كاهله من عظيم المسؤولية الوظيفية وانشغاله بعملة دائما والذي كان
هو شغلة الشاغل
، اما زوجته فردوس هانم والموظفة
أيضأ في مصلحة حكومية اخري ، عانت الكثير نفسياً لفراقها
لوحيدها
وكان يواسيها، بأن هذا
هو حال البلد ، ولا حيلة لنا في هذا الأمر ابداً،
(٢)
لقد أنهت البنات جميعأ تعليمهم الجامعي وهم يعملون للاسف عمال
يومية بالأجر
الشهري دون تأمينات عليهم وقد رضوا بهذا الوضع لقلة فرص العمل
،
ورغم منصب أبيهم، فهو
لا يحب الواسطة ولا المحسوبية ،
واليوم تقدم لخطبة البنت الكبرى، زميل لها بالعمل ، دون مؤهلها العالي وقد رضوا
به لكسر حاجز الرتابة التي يسيطر علي الأسرة منذ سفر حسن دون
أن يعرفوا عنة شيء
الا القليل من الاخبار كل حين ، فكل شهر هو في بلد ثم ينتقل
لبلد اخر ، وعزائهم انه لم
يغرق في احدي المراكب التي تحمل شبابنا في هجرات غير شرعية لتلك البلاد ،
يصل استاذ عبد الرازق للبيت ، يسلم علي بناته وتلحق به زوجته
فردوس هانم الي غرفة
النوم وتساعده في تغيير ملابسة ، ولكنة لم يشعر بها لأنه في
وادي اخر غير وادينا ،
تسأله فيشكي لها حالة ، أيام قليلة ويحال الي المعاش والبنت
الكبري تحتاج الي جهاز
ولا يملك الا راتبة ، والابن الذي كان غاية املة هاجر الي بلاد
لا يعرفها وكان يتمني ان
يكون ساعدة وعكازة الذي يتكأ علية في اخر إيامه،
هنا تقول الزوجة الطيبة ، هل نسيت المقولة التي قالها لك يومأ الرجل
الطيب الذي قدمت
له خدمة ، أن كل إنسان له نصيب من اسمة ، ويكفيك أن اسمك عبد
الرازق ، فلا تخاف
من فوات الرزق لأن الرزاق موجود ، وقد اتفقت البنات الأربعة
بالأمس بأنهم جميعاً
سيقومون بتجهيز أختهم الكبرى وكل من يأتي دورها يفعلوا ذلك
معها ، هنا يكز الزوج علي
ضروسة وهو يشعر بالقهر قائلاً وكأني مت منذ زمن بعيد ، وحسبنا
الله ونعم الوكيل ،
في صباح اليوم التالي يخرج لعملة الذي سيغادره بعد عدة
أيام، ويتقابل مع زملاء
العمل وجيرانه في الوقت نفسة وقد مشوا خلف بعض وكأنهم في طابور،
فألقى عليهم
التحية ، فردوا السلام ، ثم قال لة أحدهم، شد حيلك علشان تيجي تضم علي اخواتك
في طابور العيش ، لأن سنة أصحاب المعاشات وعملهم بعد المعاش هو
الحجز في طابور
العيش ، يلتزم الصمت ويفكر في غداً ، ولكنة مؤمن يقيناً أن
الله خير الرازقين ، لذا
لن ينشغل بالة بقضية الرزق بقدر انشغاله بوضعة العام في
المجتمع بعد خروجه للتقاعد
ثم تأتي الرحمات من رب العالمين ، التليفون يرن ليستمع الي صوت
ثمرة قلبة حسن
بخبرة بانة بخير ولكنة مازال في رحلة البحث عن عمل ، يقسم علية
والدة أن يعود
وأن رب الارزاق موجود في كل الوجود ، ولابد أن يكون بجواره في
اخر أيامه ولكن
(٣)
ينتهي الحوار دون أن يصل مع ابنة الي شيء وتمر الساعات
بطيئة يعود للبيت وهو في حالة من التواهان ، ثم يفاجأ في اليوم
التالي
بزينة
بمكتبة ليعلم أن هذا هو اليوم الأخير له في العمل ،
حضرت
قيادات من الوزارة لتقديم كلمة وهدية ولكنة لم يستمع الي شيئ
ابدأ ، انه في عالم آخر يستقل السيارة لأخر مرة الي المنزل ،
ثم
ينظر الي ما يحمله في يده
فيجد شهادة تقدير من الكرتون فيقول
تلك هي قوانين بلادي ، وتلك هي أحوال بلادي ، وانفجرت من بين
جفونه دمعة ، فيقول والله ما أبكي نفسي بل ابكي علي بلادي ،
في صباح اليوم التالي ،
تجري البنات والزوجة الي عملهم ، وهو نائم بالسرير وليس بالنائم
لقد خرس التليفون الذي ما كان ليتوقف ابدأ طوال سنين مضت ،
ولم يأتي السائق الذي كان يأتي يوميأ ، ولم تعد لة الزوجة
الافطار
كسابق عهدها لأنها الآن تعمل وهو قعيد البيت ،
يتجول في البيت وكأنه يستكشف عالم جديد ، يفتح التلفاز لمشاهدة
النشرات الإخبارية بمختلف القنوات وتلك هوايته لم يتذوق طعم
الطعام
حتي عادت الزوجة ، ثم البنات وكأنهم في حركة ميكانيكية ، جلسوا
للطعام ولم يدعوه أحدا
، تعجب وسألهم الم يدعوني أحدا لأشارككم الغداء
فردت الابنة الصغيرة والأكثر دلعاً ، انت جالس طوال اليوم أمام
الثلاجة
فنظر للزوجة معاتباً في صمت ، ولكن الزوجة نهرت الابنة بمقولة
عيب يا بنت، وبعد عدة أيام أصبح يلبس البيجامة بدون كي ، وحين
أراد
تغيير الأحوال للخروج من البيت للتجول في شوارع المدينة
لم يجد لة ملابس مكواة ، ثم أصبح اذا طلب كوب الشاي يأتيه ولكن
بعد طلبة عدة مرات ، تمني كثيرا ان يهجر هذا العالم الكاذب فلا
مكان
لة فية ، أصبح كثير النقد لكل اعضاء الأسرة أصبح يشعر بأنة
شخصية
(٤)
غير مرغوب فيها ، ولحساسيته المفرطة أصبح يشعر انه اذا دخل علي
اولادة
قطعوا الحديث ، وإذا جاء خطيب ابنته فلا مكان لة في الصالون ، ومعظم
الغرف مغلقة ، وكأنه أصبح محددة أقامته بين الحمام وغرفة نومة
وفقط ،
أراد التمرد علي هذا الوضع المشين فجلس مع جارة الحاج محمد
يشكو
لة وضعة فأخذ يواسيه بأن الحال من بعضة، وان مكانهم الطبيعي أن
يشتروا مزرعة ويقوموا بزراعتها مشاركة فيما بينهم ، انشغل
الأستاذ عبد الرازق
أخيراً بالشيء الذي سيسعده
وأخذ يسافر أسبوعياً الي مختلف المحافظات
لمعاينة
المزرعة التي سيعمل علي زراعتها وتكون مقر لابنة حين العودة وسيجمع
فيها الأسرة كلها قريباً ،
تزوجت الابنة الكبرى وتمت خطوبة البنات الثلاثة ، وزاد انشغالهم عن أبيهم
وكذلك امهم ، أنهم في عالم وهو في عالم اخر، ومازال يتشبث بحلم
المزرعة
حتي سمع ذات يومأ صوت صراخ من جيرانهم ، فيعلم بوفاة صديقة الحاج محمد
فيزداد انطوائه وعزلته عن العالم ،
ولكنة يعود لرفضة لوضعية المرير، فيصب جم غضبة علي الدولة وعلي
النظام
ويحذره بعض الأصدقاء والمقربين
أن يكف عن هذا النقد وأن كان نقدأ بنائاً،
ولكن لياس الأستاذ عبد الرازق ، وكأنه اراد الانتحار ، ولكن بعد مرور عدة أشهر
يتم القبض
علية ليجلد ويعذب عذاباً شديد دون مراعاة لسنة أو مرضة ، ولما تأكد لجهاز امن الدولة
هلاكه لا محالة بعد انقطاعه عن الطعام ، أفرجوا عنة ، فعاد الي
البيت بعد عدة أشهر من الحبس الانفرادي والتعذيب المستمر مع ضعف جسده وتقدم سنة ،
ليقف اما بيتة ليشاهد نظرات الأشفاق ممن هم حولة ، ولكنة متعب الآن وقد أن لهذا
الجسد النحيل المريض أن يرتاح
فيشير لزوجته أن تساعده للوصول لغرفته ، ويأمرها أن تتركه لوحدة
، فيستلقي علي
ظهرة ليجد جارة الحاج محمد امامة ليخبره انه اشتري مزرعة جميلة
ورخيصة وانه سيكون
شريكة فيها بالنصف في كل شيء ،
نعم أنها مزرعة ولكن ليسب لفدان أو قيراط ، أنها جنات مع صاحبة
عرضها السماء والأرض
اعدها الله سبحانه للمتقين ،
لقد آن لة الرحيل وترك للعالم كلة الصراخ والعويل وحب الدنيا ،
حتي ابنة لم يشفق
علية ولا زوجته ولا بناته
، لقد أن له الرحيل لينظر عليكم وكان من الفائزين ، تمت
______________
كتبها : أ / علاء طنطاوي