«عدالة حقيقية،
أم عدالة مثالية»
أ / رامي الحلبي
•• إذا عاد بك الزمن، وكنت في ميدان التحرير
خلال ثورة يناير، بينما الإشتباكات بين الثوار والشرطة في أشد أشكالها، فمن جانب
الثوار يرشقون الشرطة بالحجارة، ومن الجانب المقابل ترد الشرطة بالمطاطي والغاز
المسيل للدموع والمياه شديدة الإندفاع، وبدورك تفعل مثل ما يفعل الثوار الغاضبون،
هل يعد فعلك جرم كونك تشترك في عمل يعد عصيان وإنقلاب على القانون، والذي يعتبرك
هو بدوره منفلت ومتعدي على رجالاته، هل فعلك مجرم
أمام القانون أم فعل واجب عليك أخلاقيا؟؛
….، بين ما هو إعتبار عادل في طبيعته، وعادل
بمثالية أخلاقية، تتدخل الأهواء البشرية، وأدعيها أهواء لأن معيار العدالة فيها
نسبي تبعا لطبيعة القوانين التي تفرضها طبيعة المجتمعات في حالات الإستقرار و
الهدوء أوفي ظروف وأحداث طارئة مقاومة لهذا الهدوء ، و سواء تم فرض على أثر ذلك شرعية
تمثل المجتمع وتنظم له القوانين التي يرتضي أسسها، أو فرضت شرعية لنظام حاكم بعينه
تنظم له قوانين تخدم مصالحه ومصالح من حوله، لابد من النظر نظرة الشك دائما في
العدالة التي تنبثق عن أي شرعية كانت، وأشير إلى مسألة هامة فيما يعبر عن أسلوب
نقدي يتبعه مجموعات منظمة تحسب على المعارضة السياسية صوريا في المشرق العربي
مثلا، أن الفساد وإن ظهر له أثر يضر بصورة الحاكم، أتهمت الحكومة السياسية بوقائعة
في أشمل الصور، هذا إن كان الفساد شديد الضرر، أوفي أدنى الصور قد توجه تدابير
المحاسبة نحو مسؤولين صغاركانوا أو كبار وبشكل فردي، وما يجعل من تلك التدابير
تحمل الشكل الصورى هو أن الفساد قد يستمر وتستمر معه سقوط نماذج صغيرة من الكباش،
غير البريئة كذلك، إذ لايجرؤ المحاسب أو من هو في وضع إجراء المحاسبة رفع عينه نحو
الأعلى ليتهم الحاكم في واقعة فساد واحدة، وهذا لأن فكرة العدالة بمضمونها الطبيعي
بالإشارة التي تعنيها لغويا، هي فكرة غائبة، أو تتخذ أشكال مغايرة لما تعنيه
قيميا، من إقامة للعدل والحقوق والتنظيم والفصل، ولا يتخفى ما إنتشر على أثر
البراءات التي تحصل عليها النظام الحاكم قبل ثورة يناير ٢٠١١، وإدعاء قوى سياسية
هزيلة الفكر أن النظام الذي يشمل الحاكم وبطانته المقربه منه، بريء من كل تهمة
وجهت له، وأن الفساد كان فساد النخبة التي لم يحسن الحاكم تقبل تقربهم منه، وتحول
الأمر من محاكمات في وقائع جنائية، إلى
حكم أخلاقي بإطلاق عبارة، "له ما له وعليه ما عليه"وعلى هذا ادرجت
الإتهامات الجنائية خزانات عليها أقفال
صدأة، وتناستها عقول تصدأ أخلاقيا وتبلى وعيا وإنصافا، العدالة القائمة ليست هي
الفكرة المطلقة، كالتي يدعيها فهمنا لقولة، "العدل أساس الملك"،
فالمقولة وإن فسرت نفسها، تكون على هذا النحو، العدالة المثالية الأخلاقة الكاملة أساس الملك، ولا كمال سوى
لحكم الله، فضمنيا المثالية تعني الكمال، كمال في إقامة العدل وفرض القانون
بسواسية والحكمة عند إطلاق أحكام يعتبر بها، وهذا أمر يدعو للتسليم بأن العقل
البشري قاصر تجاه تحقيق هذا الكمال، ويجب عند إطلاق المقولة، العدل أساس الملك، أن نعبر بقصورنا العقلي بالسعي نحو أقرب صورة
للكمال في تحقيق العدالة، وليس أبدا للتباهي بما تم تحقيقه على أنه أكمل صور العدل
والعدالة، لهذا أجد أن هناك فوارق حقيقة
بين ماهو عدالة حقيقية قائمة، وعدالة مثالية مرجوة، فضلا عن الفوارق بين ما هو
عدالة عبر شرعية مفروضة قائمة، وعدالة حقيقية غائبة.
•أشار ميشال فوكو، بأنه لا يجب بالضرورة أن
نسمح للدولة أن تقرر ماهو قانوني.
…، ذلك لأن الدولة مهما تمادت في ديمقراطيتها
هي تملك طموح القوة، وحتى الديمقراطية لها نفس الشكل من الطموح، الذي قد يتعارض مع
فكرتها بالأساس، من إرساء للحرية والعدالة والمساواة، وعلى ذلك قد يفرض مفهوم معين
للقانون بمفهوم فرض قوة الدولة، قوة قد لا تتبنى فكرة العدالة الحقيقية أو حتى
تقترب من فكرة فرض ما هو صحيح، وحتى يقام العدل يجب على الدولة تجنب الصراع
الطبقي، ومحو التجاوزات الطبقية بحكم الطبقات الأكثر قوة ونفوذ على الطبقات
الأدنى، لتقدس العدل كقيمة أخلاقية، وحتى في ظروف الحرب أو الثورات وعدم الإستقرار، على الدولة أن
تؤمن دورها العادل تجاه المجتمع،
وتتيح للفرد بالمقابل إمكانية تقديره لتلك
العدالة كون أنه و من المفترض في هذه الحالة، إقامة العدالة في ظرف ومجال مغاير
للإستقرار ومحدود زمنيا طال أو قصر أمده، ففي أكثر الأمثلة تعبيرا عن إمبريالية
طبقية، في ظل صراع سياسي ما، تغيب معها العدالة الحقيقية، كان القانون الدولي حين
يجرم أفعال مجموعة من الأفراد يحسبون على المعارضات السياسية، بينما يدعم أفراد
بعينهم كونهم يمثلون دول وكيانات سياسية كبرى، بينما في حالات الإستقرار تتجلى
مثالية العدل فيطلب القانون الدولي، وفق
ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ نورنبيرغ، من
تلك الجماعات السياسية المعارضة تجريم أفعال الدولة، إن رأوا الجرم في أفعالها،
القانون الدولي محكوم من القوى الإمبريالية الكبرى، حتى أنه لم يجرم الفظائع
الفرنسية في مالي، أو من قبل الحروب الأمريكية في فيتنام ثم أفغانستان والعراق،
وبإعتبار أن العدالة المثالية يمكن تحقيقها في أدنى صور كمالها، إعتبر المفكر نعوم
تشومسكي، أن نقل المقاومة الفيتنامية للذخائر عبر السكك الحديدية عمل غير إجرامي،
في حين أن تعرض الدولة الأمريكية لهذا الأمر بالتجريم هو ذاته عمل غير عادل
وإجرامي، لأنه وببساطة ما هو قانوني بالنسبة للدولة الأمريكية هو مجرم بالنسبة
للقوى المعارضة للإحتلال في فيتنام، وما هو مجرم بالنسبة لفلاحي فيتنام المقاومين
هو قانوني تفرضة قوة الإستعمار الأمريكي.
….،في قضية أوراق البنتاجون، الفضيحة التي
أطاحت بمصداقية الرئيس الأمريكي جونسون أمام مواطنيه، كانت عبارة عن تقارير حكومية
سرية تتألف من سبعة آلاف ورقة، تتعلق بالحرب في فيتنام، سربها موظف مدني في وزارة الدفاع الأمريكية
يدعى، دانييل إلسبيرغ، لجريدة النيويورك تايمز، نشرتها الجريدة في ١٣يونيو١٩٧١،
وذلك قبل إستصدار الحكومة الأمريكية قرار قضائي بوقف النشر، وعلى أثر ذالك رفعت
جريدة النيويورك تايمز ومعها الواشنطن بوست التي كانت بصدد النشر لتلك التقاريرهي
الأخرى، قضايا في المحاكم الإبتدائية، الأخيرة والتي تضاربت فيما بينها بين أحكام
النشر من عدمه، وذلك حتى قررت المحكمة العليا تولي المسألة وعلى عجالة، إستمعت في
اليوم الأول للقضية وفي اليوم التالي للمرافعات وفي رابع يوم أصدرت حكمها، بأنه
لاشأن للحكومة في وضع رقابة على الصحف ومنع الكشف عن ما يتبين أنه قد يكون معلومات
مربكة، وكان ذلك في إيطار السماح للمواطنين القيام بدورهم الإيجابي، المثير للدهشة
أن الحيثية القانونية التي إتبعتها
المحكمة العليا في إصدار الحكم، هو القانون الذي يقضي بحرية تناقل المعلومات ، الصادر
في ١٩١٦، قد سمي فيما بعد تلك الأزمة بقانون جونسون .
أعتبر حينها الموظف في وزارة الدفاع، دانييل إلسبيرغ، بطل
قومي بعد أن كاد أن يحاكم كخائن لبلده، بعدما كشف للرأي العام حجم تذايد النفوذ
الأميركي في فيتنام الغير مبرر سوى بأكاذيب الحرية والإنتصار لها، بعدها بأعوام برزت قضية تسريبات ويكيليكس، عن
الحرب الأمريكية في العراق، وإعتبر الرأي العام مسؤول الموقع الإلكتروني مسرب
وثائق الحرب في العراق ، أسانج، ومصدر معلوماته ضابط وزارة الدفاع مثلهم مثل،
دانييل إلسبيرغ، إذ أعتبروا من قبل جمهورهم أبطال أخلاقيين، هم أشخاص وقفوا في وجه
القانون وتعرضوا لموقفين من عدالتين، عدالة قائمة تجرم الخروج على القانون، وعدالة
أخلاقية مثالية تنتصر على قانون الدولة في
حالة إجرامها، ومن ضمن تلك الأشكال المختلفة للعدالة، يعتبر الجاسوس مجرم في البلد التي يتجسس عليها، وبطل قومي في البلد التي تجنده.
وفي فرنسا وفي وقت من الأوقات كانت تعاني من أزمة في
العدالة، وسط إنتشار أعمال الشغب والإحتجاجات، وفي مثل تلك الظروف يرى،
سارتر، إقامة هيئات قضائية مستقلة تنظر
الجرائم المختلفة على أثر تلك الأعمال، فيما أن رأى ميشال فوكو ، أن تنظر تلك
القضايا أمام الهيئات القائمة، بينما تراقب وتهاجم ممارستها لتستوي، وهذا بإسم
عدالة أنقى تنتقد أداء العدالة القائمة.
يتوسع المفكر نعوم تشومسكي بتلك النقطة تحديدا ويضيف، على
مقولة فوكو، أنه تحت مظلة التوتر والصراعات والحروب لاعدالة، يقول، أن على المرأ
أن يكون حذر حيال وصف ما هو غير قانوني.
وبنظرة تاريخية وجيزة نرى أنه، في مطلع القرن الخامس عشر
أصبح لكل مواطن في أثينا الحق في المناقشات والتصويت على القوانين والسياسات، وفي
القرن الثامن عشر إستطاعت المؤسسات الديمقراطية في إنجلترا تفعيل دور البرلمان
لتولي السلطة وتقييد حكم الملك، أيضا تضمن إعلان الإستقلال الأمريكي ١٧٧٦، إستقلال
الأفكار الديمقراطية وإقامة العدالة، ومن مبادئ الثورة الفرنسية ١٧٨٩، إنهاء مبدأ
الحكم المطلق للملك المستند إلي وساطة دينية، والمتفق عليه هنا أن العدالة
الحقيقية عبر حكم الشعب بالشعب وللشعب، وأن يكون هذا الحكم مبرأ من أي تقييد
وشرعية غير مستمدة من الشعب، يرى أرسطو، أن الطغاة بطبائع أحوالهم إن وصلوا للحكم
حولو كل شيء إلى طغيان، وحكم الشعب بالعدالة الحقيقية يطور من فهم العدل ويرسي
مفاهيم خادمة للعدالة.