قصة : المسخ - الجزء الثالث - بقلم : أ / رامي حلبي - مجلة مجد مصر

الأحد، مارس 14، 2021

demo-image

قصة : المسخ - الجزء الثالث - بقلم : أ / رامي حلبي

 

تقدم لكم مجلة مجد مصر، حلقة جديدة من حلقات قصة المسخ بقلم الباحث أ / رامي حلبي 

ملف،"قصة المسخ"، الجزئ الثالث

…..، كافكا

 

 "من ميران، إنني أعيش هنا في خير حال، ولايطيق الجسد الفاني المذيد من الرعاية"؛

 

…..، الرسائل، مشاعر تتنقل، تسافر وترتحل، أرواح تجيئ وتذهب، تبقى أوتتلاشى، من واقع الأماكن وفي خلسات الأزمان إلى خلجات العواطف، تتهيأ الإنفعالات معها بالشغف والسعادة، أو تعبر عن القلق والحزن، هي تعلي وجود البشر ولا يمكنها إنكارهم قد تضعفهم لكن لا تمحيهم، وعلى العكس هي تخلدهم بذكراهم، وبالنسبة  لإنسان دأب يبحث في مكانه عن وجود له، ويرهقه الشك في ذلك، كانت الرسائل والكتابة عامة وسيلته لإيجاد موطأ قدم له في حياته، وبينما سيطرت على "كافكا" مسألة نقل مشاعره كاملة وصادقة إلي "ميلينا"، كانت هي في إستعداد تام لهذا الحوار، بل وفي حاجته،  رغبة في إهتمام هذا الحوار بها ووحدها، فعاشت خلال الرسائل مع العقل الذي يجلد ذاته، والقلب الذي يرهق دوافعه، والروح التى تنسحب شئ فشئ عن تجسدها، إنسان ظن بأن عبئه الوحيد في الحياة وجوده ومتاعب سببها لكل من إرتبط به،" لقد فشلت دوما في أن أكون مكملا لأحدهم، كنت دائما فردا ناقصا مليئ بالثقوب، فردا لا يجيد سوى الحب من مسافات بعيده".

 

لكن للحب مفارقات، وإن كان حب يتكبده الشقاء، فمجرد قطرة واحدة في الإناء الفارغ، تثير الرغبة في إمتلاكه والإتقاد منه قبس للحياة، "لابد لي أن أعترف بأنني وذات مرة حسدت شخصا ما، ولأنه كان محبوبا ومتمتعا برعاية فائقة، مذود بالعقل والقوة، أو لأنه كان يستلقي تحت الأزهار، إنني دائما سريع الحسد"؛

….، المقتطف السابق، كان على لسان "فيلي هاس"، محرر كتاب "رسائل إلى ميلينا"، وتحت التعليق، قال لي "كافكا" في آخر أيامه، قص المقولة ثم عقب، "وجد تلك السعادة التي تثير الحسد في آخر أيامه، وقبل أن يستلقي تحت الزهور، قد كانت الشهور الأخيرة من حياته أسعد الشهور، كان يشيع فيها السلام، سلام لم تعهده عاطفته المتأججة، الصاخبة، الذابلة والمتلاشية نحو ميلينا".

 

بالنسبة ل"كافكا"، كانت كل الطرق تؤدي إلى "فينا" أو تمر عبرها، فالعظيم من كم رسائلة، رحلت لهناك، إلى "ميلينا"، خلال الأعوام، ١٩٢٠، ١٩٢١، ١٩٢٢، ولم يكن يمكنه زيارة منتجع"شبندلة"، ب"بوهيميا" ، إلا عبر"فينا" ، حتى أنه ذات مرة  تخيل متسائلا، ماذا لو أن "ميلينا"  تصحبه لينابيع الماء العذبة هناك؟، و سألها في أحد رسائله عن رغبتها في الذهاب معه إلى "بوهيميا"، "لماذالا تغادرين فينا لفترة من الوقت؟، ثم إنكي لستي بوطن كالآخرين، ألا تمدك رحلة إلا بوهيميا بالنشاط والطاقة؟، إذا كان ثمة سبب قد حال دون أن أعلم برغبتك عن الذهاب لبوهيميا، فلماذا لاتذهبين إلى أي مكان آخر؟، إلي ميران مثلا، هل تعرفينها"؛

….، وحيث كان مقيم في "ميران" كان يتوق لتواجدها معه هناك، طالما أن ذلك غير ممكن في أي مكان آخر، ربما من جانبها  رأت "ميلينا" أن حياتها تبددت، أولا مع زواج يؤول للفشل، كذلك إختلال سلامها وإستقرارها العاطفي المنذر بتوجس وقلق، رغم ذلك بدت كأنها لا يمكنها حجب وإخفاء تلك المعية التي ظن "كافكا" أنه  أنعم بزهوها، وكذا يبدو أنه فعل، منح من قبلها السلام التي إقتطعته هي من روحها، فبالنسبه له "ميلينا" قد هدمت الحواجز، بل أذابت أغوار بحار متجمدة وواسعة في نفسيته، لكن "ميلينا" بدت أنها لم تكن على تيقن من  إستعدادها لأن تعاني، بل إن نفسيتها قد سبقت إدركها نحو ذلك، مرة عندما قررت إطلاعة على مشاكل زواجها في رسائلها إليه كصديق، ومرة عندما هيئ لها أنها أصيبت بداء الرئة مثله تماما، حتى تخيلت أنها نزفت الدم من فمها.

 

في يوميات "كافكا" أشار في أكثر من موضع ل"ميلينا"، كان قد بدأ في مراسلتها أواخر العام، ١٩٢٠، خلال تلك الفترة كان يومئ بذكرها دون الإشارة صراحة بما يدل بأن كلماته عنها، لكن في يومياته والقدر الأكبر منها، بدت أنها عن "ميلينا"، فمثلا قال،"أنت يامن تعيشين حياتك بمثل ذلك العنف،  ومن أعماق الأعماق"؛ 

….، يقول "تشارلزأوسبورن"، "من أجدر من ميلينا ليوصف بذلك"، وصحيح كانت شابة متأججة المشاعر مبادرة، رغم أزماتها الحياتية، بينما أول إشارة تبدو واضحة إليها في اليوميات كان في أكتوبر العام،١٩٢١، عندما ذكر "كافكا" بأنه أعطى "م" يومياته كي تقرأها، وأنه بذلك يكشف لها قلبه وضميره؛

….، يذكر أن "فيلي هاس"، أعطى تلك اليوميات ل"ميلينا"، كذلك الرسائل التي حصل عليها من الشاعر"ماكس برود"، صديق "كافكا" ورفيق حياته، وذكر "فيلي هاس" أن ربما إسناده تحرير كتاب"رسائل إلى ميلينا" من قبل "ماكس برود"، كان بسبب أنه صديق مقرب من "ميلينا"، وبسبب أيضا أن رسائلها ل"كافكا" قد ضاعت، ولقربه  وصداقته من "ميلينا" ربما يعوض ضياع تلك الرسائل عند تحرير الكتاب.

 

       ثالثا، * من تكون ميلينا .

                

…..، ميلينا ييزينسكا، تشيكية،  محررة أبواب موضة، وكاتبة قاصة، ومترجمة أدبية، عاشت أزمة إنحدار وجداني، مثلها مثل الكثير من من إنتسبوا لأوساط "فينا" الأدبية والثقافية، وكذا هي عانت في فترة الإنتكاسة تلك التي أعقبت عام ١٩١٨، لهذا لم يكن من الغريب أن تغويها كتابات "دوستويفسكي"، ويكون ومن البداية أديبها المفضل،

 وقد تضمنت الرسائل بينها و"كافكا" العديد من المناقشات حول مؤلفات الكاتب الروسي، من ما شكل هذا الإرتباط الأدبي بينهما.

….، ولدت في "براغ" ، لأسرة من الأسر المؤثرة و العريقة في تاريخ "تشيكوسلوفاكيا"، أحد أسلافها أعدم عقب معركة "الجبل الأبيض" على يد أسرة "الهابسبورج" الحاكمة وقتها، ، له نصب تذكاري يخلد إسمه أوسط ميادين مدينة "براغ"،  وصفها مقربون بالمرأة النبيلة، وشبهها البعض بنساء روما الأرستقراطيات التي صورتهن لوحات فناني ورسامون حقب الرومانسية الإيطالية، إلتقت ب"كافكا" كمترجمة لأول أعماله القصصية من الألمانية إلى التشيكية، عرفته أثناء علاقة تربطه ب"دورا ديمان"، وكانت  هي الأخرى متزوجة في "فينا".

 

"ميلينا"، أحبت "كافكا"، كاتبا وشاعر ومؤنس في الحياة،

ولا شك أن الرسائل بينهما قد جسدت لقضية السعادة ودورها في حياتهما، كالخوف من بلوغها في البداية، والقلق من فقدها بإستمرار، وإستنفاذ بواطنها من أعماق روحيهما، مات "كافكا" في العام ١٩٢٤، وكان قبلها قد أيقن إستحالة  الإستمرار على هامش تلك السعادة،  بينما "ميلينا" والسعادة، ظلا هاربان كل من الآخر، باحثان عن بعضيهما ثم ضائعان بقدرما تشبسا، ولم تكن النهاية "لميلينا" عاطفية تكلف إحساس الفقد أو تخفق صوب مشاعر الحزن فحسب، بل كانت نهاية مؤلمة بحق، ومؤرخة في سجلات المعسكرات النازية، فبعد معاناة الحب ثم الفقد، عاشت في السجن سنواتها الأخيرة زهرة توقد الأمل في النفوس حولها؛

….،  تصف "مارجريت بوبر" علاقتها و" ميلينا" خلال صداقتهن في السجن، "أنا وميلينا صرنا صديقتين من الساعة الأولى للقائنا في معسكر "رافينسبروك"، جائت مريضة من سجن الأبحاث في "درسن"، كان وجهها يرتسم عليه الألم، كما كانت ترتعد من البرد في أسمال السجن، رغم ذلك كانت أيضا أبعد ما تكون عن الإنهيار، وأبعد ماتكون عن إكتساب شخصية السجينة المستكينة، لم تتحول أبدا إلى نزيلة، ولم تتمكن منها اللامبالاة ويسبغها التبلد، فحواسها أبدا لم تخمد،  كانت تبدد لي مخاوفي، دامت صداقتنا أربعة سنوات مريرة، إنقضت في صراع الحياة والموت داخل المعسكر"؛

….، ماتت في ١٧ مايو ١٩٤٤ جراء عملية في الكلى، تعلق "مارجريت بوبر" في كتابها "في ظل ديكتاتورين"، عن موت صديقتها،" في هذه اللحظة فقدت الحياة معناها بالنسبة لي.

 

 

 

 

           *رسائل كافكا إلى ميلينا

 

كانت "ميلينا" أول من إكتشفت موهبة "كافكا" ولمحت نبوغه، فهذا المثقف البسيط كان بالنسبة لها شاعرمميز، ثم لاحقا عاشق ومحب، حملت رسائله إليها ومن اللحظات الأولى مظاهر الإعجاب والتملق، "لماذا لا تكتبين لي بالتشيكية، ولا أقصد بذلك أنك لا تجيدين الألمانية، أنت تسيطرين عليها على نحو يثير الدهشة، وإن خانتك قدرتك أحيانا، فإنها عندئذ تنحني أمامك وهذا يبعث علي السرور، إذ أن الألماني نفسه لا ينتظرهذا من لغته، غير أني أريد أن أراك في التشيكية، لأنها لا تنفصل عنك، فيها وحدها توجد ميلينا بأكملها، أما في الألمانية فأنت لستي سوى مجرد تلك التي في فينا"؛

….، عبر عن رغبته في التقرب منها، يريد أن يراها ولو عن طريق لغتها، لكن "ميلينا" لم تكن لتتعاطى مع هذا العاشق بإندفاعها المعهود، كان عليها أن تتعامل أولا مع مشاعرها التي فاضت نحوه بشئ من الحذر، فكتب لها بعد فترة من إنقطاعها عن مراسلته، "أنا إذا في إنتظار أحد أمرين، أن تواصلي الصمت الذي سيكون معناه (لا تخشى شئ إنني هنا في خير حال)، أو بالأحرى بضع سطور قلائل"؛

….، بدا لها شيء فشيء أنه يهتم بها على نحو خاص، ويبدو أنها كتبت له تعبر عن إستيائها من أمور حياتية، "يبدو أن القلق والهموم قد زايلتك تماما، إستنتجت هذا من رسالتيكي الأخريتين، أتمنى لك الخير وزوجك"؛

….، تحدث معها لاحقا بذكريات تجمعه وزوجها، لقاء عابر، " أذكر عصر يوم من أيام الأحد، كنت أجرجر ساقي على إمتداد(فرانتسنزكفه) ملتسقا بجدار المنازل، أتقدم نحو زوجك الذي كان مندفعا نحوي، في حال ليست خير من حالي، خبيرين في الصداع رغم إختلاف سبيلهما، ذلك ماض ويجب أن يظل مدفونا، هل تشعرين بالسعادة في موطنك"، بدا "كافكا" لو أنه خبيث، يريد مقارنة فورية بينه وزوجها، ثم يسألها لو كانت سعيدة، في الموطن، التعبير الذي يحتمل أي شرح.

 

….، ماذا لوتقاسما الشعور؟،"هل أنت أيضا تمارسين متعة الشعور بالغربة، تلك المتعة التي قد تكون مصادفة، أومجرد دلالة سيئة، إنني أعيش هنا على خير حال ولا يطيق الجسد الفاني المذيد من الرعاية"؛

ثم يبدأ في إطلاعها على تفصيل مشهده "تطل شرفتي على حديقة، تزهر فيها الشجيرات المزهرة، إن النباتات هنا غريبة ، الزهور تتفتح فيها ببطئ، وتتعرض غرفتي للشمس، أوللسماء التي تثقلها السحب إلى مالا نهاية"؛

يكمل معبرا عن إشفاقه على نفسه، " تزورني في الغرفة السحالي والطيور وأنواع متباينة من الكائنات، تزورني أزواج أزواج"، حتى زائريه لم يكونوا سوى عابرين غير مهتمين سوى برفقائهم، تعبير بالغ يهز الإستقرار الذي بدا يعبر عنه في البداية، ثم يكمل "كافكا" بأمنية تكشف مكنونه الحقيقي،" إني أتوق في لهفة بالغة إلى أن تكوني هنا في ميران"؛

 

….، كتبت له تشتكي المرض،" لقد كتبت لي عن عدم قدرتك على التنفس، وتلك الكلمات تتجاوز الصورة والمعنى، ففي ميران قد تخف وطأتها بعض الشئ"؛

في رسالة متتالية، أراد أن يخفف من وطأة الأمر" إذا إنها الرئة، ظللت طوال النهار أدير هذه الكلمات في رأسي، لم أفكر بأن نذذير قد أنذرني بالفعل عن هذا المرض، ولعل المرض هو مالا نأمله، تشير تلميحاتك إلى هذا، يبدو في حالتك صورة إشتباه عديم الأثر"؛

ثم يخبرها بسوء تجربته والذي وهو موقن بأن المرض تمكن منه، يخبرها بطريقة تعامله هو معه،"على أن مرض الرئة الفعلي هو هذا المرض الذي عرفته خلال خبرتي الخاصة التي دامت ثلاث سنوات، ففي منتصف ليلة نهضت مرتاعا بسبب النزيف، رحت أتجول في الغرفة، قصدت حوض الغسيل، جلست على الفراش، لم يتوقف النزيف، مع ذلك لم أعاني من التعاسة، علمت وأخيرا أني سأنام، وبعد ثلاث سنوات أو أربع هجرني فيها النوم، توقف النزيف وإستغرقت بقية الليلة في النوم"؛

 

….، سألته عن خطبته،" تسألين عن خطبتي، خطبت مرتين (إلتصقت بي ثلاث خطبات إن شئتي)، وهذا يعني أني خطبت فتاة منهما مرتين، إنتهى تقريبا كل مايتعلق بالخطيبة الأولى، أما الثانية، مازالت قائمة لكن دون أدنى أمل في إتمام الزواج، وهي لحظة إرتباط لا وجود لها في الحقيقة"؛

بعد تبريرات وشروحات يوجه الإهتمام نحوها، "إن على المرأ في الحقيقة أن يعالج ذلك بطريقة أخرى، ونقطعها بدايتا في هذا السبيل، وهو أن تستلقي في إحدى الحدائق وتتخلصي من المرض، وخاصة إن لم يكن مرضا فعليا، تخلصي منه بأقصى سرعة ممكنة، فثمة متعة بالغة في تخلص المرء من مرضه"، وتبدو الجملة الأخيرة إشارة بشكل ما.

 

….، عبر عن إستيائه من تحفظها في الحوار، " لقد أخذ هذا الأسلوب الذي نلتزمه في حديثنا أحدنا للآخر يسبب إرهاق لكلينا، لكنه يعد من تلك الأياد التي يتشبث بها المريض في دنياه، ولا تعد هذه الأياد بدليل على الشفاء"؛ يعبر عن شعوره ،"أثناء قرائتي لرسالتك، يالها من قصة، فلا يسعني بعد ذلك أن أرى شيء سوى النيران"؛

ثم يذوي بمنطقه،" على أي شخص أن يحترم ذلك القانون الذي يحكم حياتك، تلك الحياة التي أهملتها ولا تريدين أحد أن يشفق على إنسياقها،الذي تقرين بأن إحتمالها أمر طبيعي، وأن إهمال هذا القانون ليس سوى غرور محض،( وأنا من يتكبد ثمن هذا )، أما من ناحيتي فأنا مؤمن بقانونك، وإن كان في غير إستطاعتي يأنه وفي مقدوره إنقاذك، يتسلط على هذا النحو الصارخ، وعلى الرغم من هذا فهذا يعد تبصرا من ناحيتك، إلا أنه تبصر على الطريق، وليس للطريق نهاية"؛

 

….، عبر عن مكانها في حياته، " قمت وحدي بجولة سيرا على الأقدام، وإلا لذهبت مع الآخرين أو إستلقيت بالمنزل، ماهي تلك القرية، ياللسماء، (لو أنك كنتي هنا ياملينا، أنت وهذا العقل البائس العاجز عن التفكير)، إلا أنها ستكون كذبة بالنسبة لي لو قلت بأني أفتقدك، إنه السحر الكامل المؤلم، أنك توجدين هنا مثلما أنا هنا، وجودك مؤكد أكثر من وجودي، إنك تكونين حيث أكون، لست أمزح، ذلك أنني أتخيلك أحيانا بما أنك هنا، تفتقديني وتتسائلين أين هو،ألم يكتب قائلا بأنه في ميران"؛

 

….، إستشعر غضبها على نفسها،" رسالتك تبدأ كما يبدأ حديث القاضي، إنك محقة فيما تواجهينه من تعنيف، أو لعلك ليس لك الحق في ذلك، وفيما يتعلق بالأمر الذي تعرفينه، إن هذا أوضح لو أن القلق يسيطر علي، لما أمكنني رغم كل العوائق أن أبقى مستلق فوق مقعدي، وما عداه ليس سوى مجرد لغو، بما فيه من البرهان الأخير، أو لمحات إلى ذلك الشعور، الذي يكمن تحت كل شيء، غير أنه شعور صامت مستكين"؛

 

….،  ربما لمحت له بوجوب قطع المراسلات، إضافة إلى مواقف متعلقة بزوجها، وسوء تقدير أوقع أمر بين إحدى صديقاتها و"كافكا"، كتب لها مندفعا يقول بأنها يمكنها أن تطمئن كذلك زوجها، فهي لم تعد تمثل له شيء، وطلب الإعتذار من صديقتها، ثم لاحقا وضمن مراسلات العمل قال لها،" إنك تبخثين قدر رسائلك يا ميلينا، (إنني منشغل بأمرك فحسب)، لقد تحسنت رسائلك إلى حد ما"؛

وفي رسالة لاحقة" لا ياميلينا، ليس عليك أن تخشى شيء، ذلك وإن العكس هوما سيجعلك ترتعدين، إنه لأمر بالغ الخطر أن أتسلم رسالتك، ويكون وجوب الرد عليها بعقلي المؤرق، إنني أتسكع بين السطور فحسب، تحت ضياء عينيك، تحت أنفاسك، كما لو كنت أتنزه في يوم سعيد صحو، يظل هكذا حتى لو كان الرأس متوعكا، مرهقا"؛

 

….، يبدئا الإندماج مرة أخرى، "ثمة صفة غريبة، أظن أن كلانا مشترك فيها، أننا في غاية الخجل والقلق، تختلف كلى رسالتينا عن رسائلنا الأخرى، على نحو ما ترتعد كل رسالة عن الرسالة التي تليها، إنك لستي بطبيعتك، إلا أن هذا على الغالب أصبح طبيعتي الثانية، بالطبع إن حالتي تلك تختفي عندما ينتابني اليأس أو الغضب، ينتابني إحساس أن كلانا في حجرة واحدة لها بابان، كل منا يقبض على مقبض أحد البابين، وما إن يطرف جفن أحدنا يكون الآخر قد ذهب ، فلا تصبح رؤية ممكنة"؛

 

…., يحلم بها،" اليوم في الصباح الباكر حلمت بك مرة أخرى، كنا نجلس بجوار بعضنا البعض، وكنت تبعدينني بود، وكنت غارقا في تعاستي، بسبب أني كنت أعاملك كأي إمرأة صامته، أو لعلها بسبب فشلي في أن أسمع صوتك، إنصرفت مبتعدا، كنا قد قرأت شئ بهذا الصدد،(حبيبتي نهرها نبع يتدفق، نهر يطوقني الآن، ومع ذلك فهو لايصطحب الذين يطوقهم، أولئك الذين يتطلعون لك)، الآن إسمي فقدته، أخذ ينكمش طوال الوقت، والآن أصبح لك"؛

 

….، يتحدث عن علاقتهما،" لايمكن أن أقطع بأنك ترغبين في رؤيتي،(أنت تنتمين إلي حتى لو قدر ألا أراك ثانية)، أنت لستي إرثي للإنهيار، فلقد كان إنهياري وسط موكب الإنهيار، …. ميلينا، أنتي بالنسبة لي لستي كأي إمرأة، بل فتاة لم أرى مثلها من قبل، ولست أجروؤ على أن أقدم لكي يدي، تلك اليد المهتزة المترددة".

 

….، غضبت دورا، بعلاقته وميلينا والرسائل بينهما، وتسائلت عن ما إن كانت ميلينا تحب زوجها، أخبرت دورا، كافكا برغبتها في مراسلة ميلينا، سمح لها بذلك ثم كتب لميلينا يخبرها بالأمر، تسائل هو الآخر وفي موضع آخر عن ما أن كانت تحب زوجها، ردت عليه فأخبرها ، " لقد كتبتي تقولين،(نعم أنت على حق إنني أحبه)، لكنني أحبك أيضا يا فرانتس، إني أقرأ تلك الجملة بعناية خاصة تلك ال(أيضا)، وأتوقف قليلا، أكل شيء على ما يرام، لن تكوني ميلينا حقا إن لم يكن كل شيء على ما يرام"؛

 

….، طلب منها الحضور لبراغ، تعللت بالمال، وفره لها وأخبرها  أنه يشعر بالضيق لوجود أموال معه قد خصصها لها، ثم أملا في أن تقبله  وتزوره قال لها،" إنك تسهمين مساهمة فعالة في شفائي، أنت تواصلين الإسهام بذلك كل لحظة وعبر رعايتك لي في أفكارك"،….."إنتابني الخوف حقا بدافع الحب في أن تحضري فجأة إلى براغ، وبدافع هذا الوهم من قبلك، لكن هل يمكن حقا لوهم بأن يدفعك لهذا العنف الذي تعيشه حياتك إلى أعمق أعماق الحياة، إن وهما لم يكن ليضللك أبدا"؛

 

….، بدت ميلينا متشككة في تلك العلاقة، " أنت دائما تريدين أن تعرفي إن كنت(أنا) أحبك، غير أن هذا السؤال من أصعب الأسئلة" …. "لقد أخطئتي فهم بعض الأشياء، منها ما يتناول عنائك الشخصي، ولا ينبغي أن أنبذ رسالة واحدة من رسائلك، وهذا واضح، ….. ولست غيور على الإطلاق، لكن يصعب إدراك ذلك، أنه لاجدوى من أن أكون غيور"؛

 

….، إلتقى كافكا بالزوج عدد من المرات، منها مره عندما بدأ مراسلة ميلينا كمترجمة لأعماله، كان يريد أن يسأله عن أخبارها لكنه تردد، وصف كافكا الزوج لميلينا بأنه شخص يجذب الإهتمام، هادئ من الأشخاص الذيين يعتمد عليهم، وتحفظ على غرابة الطرق التي إلتقيا بها، وتحفظ أكثر من غرابة طلب الزوج لمراسلته، "غريب أن زوجك يقول بأنه يريد أن يكتب لي، ماذا عن (ضربي وخنقي؟)"، إنني لست أفهم، من المستحيل بالنسبة لي إستحالة بالغة أن أتصور ذلك"؛

 

….، يخبرها عن علاقته ووالده،" كتبت لك بوضوح عن حياتي مع والدي، لاشك أنها كانت سيئة، لكنها ليست الحياة اليومية فقط، ليست الإستكانه لتلك الحلقة من الحنان والحب"؛

كتبت له تسليه، " عطوف وصبور، هل تلك حقيقتي؟، لست أدري حقا فهذه البرقية أنعشت جسدي كله، أعلم أن الأمر كله مجرد برقية، ليست كتلك اليد الممتدة".

 

….، يحدثها عن قدر فهمه لها،" لقد عرفت للتو ما سوف تتضمنه الرسائل، وكان واضحا في عينك، فما الذي يمكن أن تصعب ملاحظته في أغوارها الصافية، وهو كان مخطوطا أيضا على صفحة جبينك، أدركت ما سوف تتضمنه كما شخص كان قد أنفق النهار كله مستغرقا في حلم، وحلف مصراعي نافذتين مغلقتين، وعندما قام بفتحهما في الليل لم يدهشه شئ رآه"، ….." تكتبين لي قائلة بأنك أحيانا تشعرين بالرغبة في وضعي محل الإختبار، ولقد كانت تلك الفكرة مزحة، ألم تكن كذلك؟ ، أرجو ألا تفعليها، إن عملية التعرف في حد ذاتها تستلزم طاقة كافية، فأي قد من الطاقة يستلزمه العجز عن التعرف"؛

 

….، تصارحه ميلينا بقدر حبها لزوجها وعجزها عن الإستمرار مع الزوج كذلك، كذلك عجزها عن الإتيان بخطوة ممكنة، بعدها تقلل مره أخرى من مراسلته ويسبب ذلك لها الضعف والمرض، فيعبر بقلقه من الخوف والهجر، " على هذا لن أحصل على رد لتلك الرسالة لعشرة أيام أخر ، وبمقارنة ذلك مع الماصي القريب يكاد يبدو ذلك كأنه هجر، يمكنني إخبارك بعدة أشياء، لا لكي أنتشل شئ من الغرق، بل لأساعدك فهم طبيعة أحوالي، وذلك حتى لا تهربين مذعورة بعيدة عني"ّ،…." أحس أحيانا كأني أحمل تلك الأثقال، ليتعين علي في كل لحظة أن أغطس متجرجرا لأعماق البحر، وأن الشخص الذي ينقذني قد يكف عن محاولاته، ليس لضعفه بل لمجرد الضيق المحض، ولا يقال هذا في شخصك، بل في إنعكاس واهن في شخصك، إنعكاس لا تكاد تتحصن منه رأس منهكة خاوية"؛

 

….، في رسالة أخرى بدا متصالحا وسعيد رغم كف ميلينا فترة عن مراسلته، وبعد أن تسلم رسالة منها متأخرة، وإلتقاها وتحدث معها،"رائع الجمال يا ميلينا، لاشئ في رسالة الثلثاء رائع الجمال مثل الهدوء والثقة والوضوح التى صدرت عنه الرسالة، ماحاجتي للرسائل بعدما قضيت بالأمس يوم كامل ونصف ليلة  بالحديث معك، حديث كنت فيه مخلص وجاد، وكنتي أنتي واعية، وكان لهذا كله أن يكون على مايرام، فقط ينبغي معرفة السبب في عدم كتابتك من قبل، لا أريد أن أراكي مريضة في غرفتك الصغيرة وأمطار الخريف بالخارج، (كتبتي لي عنها)، وعن إصابتك بنزلة برد، إذا هذا كله لم يعد له وجود الآن، فأنت بخير، ولا أريد شئ في هذه اللحظة أفضل من ذالك"؛

ترين ياميلينا إلى أي حد يفتقر المرء التحكم في نفسه، بعد أن طلبت ألا تكتبي لي يوميا، فعندما لم تصلني أي رسالة، كنت أكثر هدوء، لكني لم أجد قواي في متناول مايسعفني، ذلك وحين أكتب إليك إنني أهدأ"؛

 

….، بعد فترة إنقطاع بدأ يفهم إستحالة إستمرار العلاقة،"هل سيرى أحدنا الآخر؟، أنا أكتب (يرى) وأنت تكتبين(نعيش معا)، لكني أعتقد أنه لن يكون بمقدورنا العيش معا مطلقا، لا يبدو لك أنكي تدركين أنني وأنت نقف جنبا إلى جنب ونرى هذا المخلوق فوق الأرض، الذي هو أنا، حيث أنني وأنا كمتفرج لن يكون لي وجود عند إذ"؛

….،" كيف حدث يا ميلينا أنك مازلت لا تشعرين بخوف أو نفور مني، وإلى أي مدى تبلغ جديتك وقوتك، لا لا توجد إمكانية لحياة مشتركة ظننا أننا عشناها في فينا، وتحت أي ظرف، لم يحدث أن وجدت تلك الحياة وقتذاك، كنت فقط قد تسلقت فوق سوري، قد شببت نحو قمة السور متشبة به يدي ثم سقطت"؛

 

….،" إنني لا أفتقر إلى الإخلاص، مع أنه لدي إنطباع بأن خط يدي قد دأب في الإذدياد وضوح، كما أني بلات في إخلاصي حد ماتسمح به تعليمات السجن، بل أكثر، ذلك أن تعليمات السجن تذداد سماحا وتراخيا، لكني لا أقدر الإلتزام بخطاها،(فالثبات مستحيل)"؛

 

….، "ليس هناك من قانون يمنعني من الكتابة لك، ومن أن أشكرك على هذه الرسالة التي تتضمن أجمل سطر على الإطلاق، وهو ( إنني أعرف أنك يافرانتس خلافا لذلك)، وكنتي متفقة معي لوقت طويل ألا يكتب أحدنا للآخر بعد الآن"،...." هي مجرد صدفة فقد كان من المحتمل بالمثل أن تكوني أنت من عبر عنها، وطالما أننا إتفقنا قلبي من الضروري أن نفسر لما سيكون من الخير عدم الكتابة، (ومن الآن فصاعد لاينبغي أن تسألي في مكتب البريد، لأنه وغالبا لن يكون لي إمكانية في الكتابة إليك)"؛

 

….، "بالنسبة لهؤلاء الذين يعتقدون زوجا أو حبا بدافع اليأس، مالذي يجنونه، فلو أن الوحدة أضيفت إلى وحدة فلن يؤدي ذلك إلى تآلف، لكن في هذه اللحظة أسوأ شئ ، حتى أنا لم أكن أتوقعه، أنني لا أستطيع كتابة هذه الرسائل"؛

 

….، "عزيزتي ميلينا، لوقت طويل كتن جزئ من رسالة إليكي ملقى هنا، إلا أن الإستمرار ليس سهلا، لأنه حتى هنا عثرت علي الآلام القدد، وهاجمتني وطرحتني أرضا، في مثل تلك الأوقات كل شء تحول لجهد، كل جرة قلم رصاص وكل شيء أكتبه الآن يبدو جهدا، وعندما أكتب (مع أرق تحياتي)، فهل لتلك الكلمات قوة وجهد لتصل إليك".

 

إن قراءة تلك الرسائل تنفي أي شك بأنها على مدار أيام وأسابيع وشهور خلال عامين، لما تحمله من تقلبات وأحوال وظروف ووقائع، لكن كأنه حديث يبلغ حد الحكايات التي تقص على المسامع في ليلة واحدة نفى فيها النوم منافي الصباح، إنما الصباح ممكن بإشراق الحياة التي بدأت مع إنتهاء تلك الرسائل، والفارق البسيط أن كافكا قد إستعد حينها للموت، وميلينا بدت أكثر إستعدادا لمعاناتها اللاحقة، أخيرا لا يحق لي أو لأي من كان أن يشفق عليهما، إقرأ وفقط، إقرأ لمجرد القراءة وإستقبل حياتك.

 

 

 

       رابعا، تأثير كافكا في حركة الأدب، وما قيل عنه.

 

 

IMG_%25D9%25A2%25D9%25A0%25D9%25A2%25D9%25A1%25D9%25A0%25D9%25A3%25D9%25A1%25D9%25A4_%25D9%25A2%25D9%25A0%25D9%25A3%25D9%25A6%25D9%25A1%25D9%25A6

 الأجزاء الأخرى 

قصة كافكا الجزء الأول 

قصة كافكا الجزء الثاني  

 

 

 

 

 

 

 

 

Pages